بينما انشغل الوسطان الدولي والإقليمي بتثبيت التهدئة الهشّة بين طهران وتلّ أبيب، خرج تقرير مطوّل لمنظمة «الديمقراطية الآن للعالم العربي» (DAWN) – ومقرّها واشنطن – ليعيد تسليط الضوء على الفاعل «اليمني» في معادلة الصراع. المنظمة، المشهود لها بقربها من دوائر صنع القرار الأميركية، خلصت إلى أنّ صنعاء نجحت، بفعل عملياتها المتواصلة منذ خريف 2023، في ترسيخ صورتها كـ«محور مقاوم» يفرض كلفة باهظة على إسرائيل وحلفائها ويبدّل قواعد الاشتباك في البحر الأحمر والشرق الأوسط بأسره.
التقرير يقرّ أولاً بأنّ وقف إطلاق النار الإيراني-الإسرائيلي لم يُقلّص من وتيرة التهديدات اليمنية، بل جعلها أكثر تركيزًا. فالقوات المسلحة في صنعاء استمرت – من دون اكتراث بالاعتراضات الغربية – في إطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة نحو عمق الأراضي المحتلة، وفي التلويح بإعادة إغلاق الممر الملاحي الدولي أمام السفن ذات الصلة بتل أبيب إذا عاودت الأخيرة اعتداءاتها على غزة. المنظمة اعتبرت هذه الاستراتيجية «إظهارًا لواجب ديني وأخلاقي» ترجمته القيادة اليمنية في خطاب علني يربط بين العقيدة والالتزام «بنصرة المظلوم الفلسطيني».
على الأرض، يشير التقرير إلى أنّ البحر الأحمر تحوّل عمليًا إلى مسرح اختبار لقدرات اليمن التقنية. فمنذ مجزرة مستشفى الأهلي في أكتوبر 2023، شنّ الحوثيّون أكثر من خمسمئة هجوم – بحسب تقديرات أميركية – استهدفت سفنًا تجارية مرتبطة بإسرائيل، وأخرى عسكرية ولا سيما أميركية، ما اضطر كبرى خطوط الشحن إلى تغيير مساراتها ورفع أقساط التأمين. التأثير الاقتصادي المباشر، بحسب DAWN، تجاوز إسرائيل ليصيب سلاسل الإمداد العالمية ويضع واشنطن وحلف شمال الأطلسي أمام معادلة أمن بحرية جديدة لم تكن في الحسبان.
في الشق السياسي، أبرز التقرير مقابلة حصرية مع القيادي في المكتب السياسي لأنصار الله محمد البخيتي، الذي جدد توصيف العمليات بأنها «شرعية دفاعًا عن النفس ونُصرةً لغزة». البخيتي ذهب أبعد حين أشار إلى أنّ تل أبيب وضعت اسمه ضمن قائمة اغتيالات سرّية، معتبرًا الأمر «شرفًا» يضيف إليه «دافعًا معنويًا» للاستمرار. وبلهجة لا تخلو من التحدي، أكّد أنّ الحركة «لن تتخلى عن الشعب الفلسطيني مهما كلّف الثمن».
أما واشنطن، التي اضطرت – وفق التقرير – إلى توقيع هدنة منفصلة مع صنعاء في مايو 2025 بعد فشل عمليات «حارس الرخاء» و«الفارس الخشن» في كبح القدرات اليمنية، فهي تجد نفسها اليوم أمام مأزق مزدوج: فمن جهة لا تريد توسيع رقعة الحرب مع إيران وحلفائها، ومن جهة أخرى ترى سفنها الحربية مهدَّدة إذا ما انخرطت مجددًا في أي هجوم إسرائيلي على طهران. موقف عبّر عنه الناطق العسكري يحيى سريع صراحة، حين توعد باستهداف الأساطيل الأميركية في البحر الأحمر إذا شاركت في أي عدوان جديد.
DAWN خلصت إلى أن العمليات المباشرة ضد إسرائيل وحصار البحر الأحمر منحت صنعاء مكانة رمزية كبيرة، ليس في الشارع العربي فحسب بل حتى في الأوساط الغربية المتعاطفة مع الفلسطينيين. وسائل التواصل الاجتماعي، تقول المنظمة، «ضخّمت صورة المقاتل اليمني» بوصفه استثناءً في مشهد عربيّ طغت عليه بيانات الشجب والتحفّظ الدبلوماسي، ما أتاح لأنصار الله كسب رأي عام عابر للحدود وتعزيز خطاب المقاومة في وجه مشاريع التطبيع.
بهذا المعنى، ترى المنظمة الأميركية أنّ صنعاء نجحت في إعادة تعريف الحرب غير المتكافئة: فهي لا تمتلك اقتصادَ دولة كبرى ولا غطاء جوّيًا عالميًا، لكنها استطاعت عبر «ضربات مركّزة وعالية الدقة ورخيصة الكلفة» أن تخلق أثراً استراتيجياً هائلاً، وتفرض على واشنطن وتل أبيب معادلات ردع جديدة «لم تكن واردة في حسابات مراكز التفكير العسكرية قبل عام واحد فقط».