من ينظر إلى خريطة النفوذ والتحكم في سورية اليوم، بعد سقوط النظام السابق، يخلص إلى نتيجة مفزعة: أن سورية لم تُحرر، بل انخرطت في صلب الوصاية، وخرجت من استبداد علماني إلى استعباد جماعي تكفيري. فـ”سورية الجديدة”، التي بُشِّر بها البعض بعد سقوط النظام، ليست دولة ذات سيادة، بل كيان تتحكم به قوى خارجية، ويُدار بقرارات تُملَى من عواصم أخرى، بينما يبقى الشعب السوري محجوبًا عن القرار، مغيّبًا عن الفعل، لا يُستشار ولا يُمثَّل، وكأن دوره انتهى بانتهاء بسقوط الأسد.
القرار السيادي السوري، اليوم، موزّع بين الدوحة وأنقرة، حيث تقرر قطر ما يُقال ويُمنع في الإعلام، وتفرض سياسات التمويل والتوجيه السياسي، بينما تتحكم تركيا بالحدود والمعابر، وتفرض واقعًا أمنيًا واقتصاديًا على مناطق شاسعة من الشمال السوري، حتى صار الدخول والخروج، الاستيراد والتصدير، التوظيف وحتى التعليم، مربوطًا بموافقة تركية مباشرة أو غير مباشرة. وما يُسمّى بـ”الحكومة المؤقتة” أو “الائتلاف” لا يعدو كونه أداة شكلية تُدار من الخارج، لا تملك قرار الحرب ولا السلم، ولا حتى سلطة على القوى المسلحة الفاعلة.
ولم يعد خافيًا أن جزءًا من الأرض السورية لا يزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، منذ عام 1974. وبدلاً من تحريره تسعى الحكومة الجديدة إلى تسليم ما تبقى من الأرض السورية للصهاينة وكأن قوات الاحتلال صاحبة الأرض والشعب السوري غريبٌ عليها، وكل يوم نشاهد تقدمات جديدة وصلت حتى حدود العاصمة دمشق، بينما الشرع ونظامه مشغولون بالإجرام الطائفي وتصفية المكونات الأخرى من الشعب السوري تحت عناوين إقصائية مقيتة.
أما مسار التطبيع، فتمضي فيه سورية مرغمة لا مخيّرة. فالقوى التي تتحكم بها سياسيًا واقتصاديًا، تدفع نحو الاعتراف بـ”إسرائيل” والانخراط في مشاريع إقليمية تشرف عليها تل أبيب، تارةً بحجة “الاندماج الإقليمي”، وتارةً باسم “السلام الاقتصادي”، مع صمت كامل عن جرائم الاحتلال في غزة وسائر فلسطين. فيُفتح المجال الجوي أمام الطائرات الإسرائيلية، وتُغلق القنوات أمام أي صوت مقاوم، وتُحاصر الفصائل التي ترفض التطبيع، وتُلاحق شخصياتها في الداخل والخارج.
ووسط كل هذا، الشعب السوري غائب. لا تُستشار المجالس المحلية، ولا تُفتح صناديق الاقتراع الحرة، ولا تُنظَّم مناقشات عامة حول مصير البلاد. أما الإعلام، فهو إما تابع للدول الراعية، أو خاضع لرقابة تمنع أي خطاب معارض لمسار التطبيع أو التبعية. لم يعد السوري يُسأل عن رأيه في التحالفات الخارجية، أو في فتح الأبواب للتنسيق مع الاحتلال. لم يعد يُسمح له أن يرفض، أو حتى أن يعترض، وكأن الوطن ليس وطنه، وكأن الأرض التي قاتل من أجلها، أصبحت سلعة تُدار في صفقات خلف الطاولات.
إن سورية اليوم محتلة، ليس فقط من قبل “إسرائيل” التي تحتل الأرض، بل من قبل قوى تسيطر على القرار وتمنع الإرادة الوطنية من التشكل. ومَن يسوقها نحو التطبيع، يُفرغها من روحها، ويحرم شعبها من حقه في المقاومة، وكأن المطلوب ليس فقط إسقاط النظام السابق، بل إسقاط الكرامة الوطنية كلها، وجعل سورية رقمًا تابعًا في معادلة إقليمية صيغت بعيدًا عن إرادة شعبها.