خصومة الملثم جاءت في بقية الوقت الضائع، حيث عقارب الساعة الرملية تقترب من إعلان ساعة الحقيقة حول سقوط كل راية ليست غزة والقدس ومخيمات الضفة عنوان كفاحها ضد المحتل.
“أنتم خصومنا أمام الله عز وجل، أنتم خصوم كل طفل وثكلى ومجوَّع”.
لماذا هذه الخصومة من الناطق باسم القسام أبو عبيدة مع الأنظمة والنخب والأحزاب الكبيرة والعلماء؟ يوضح أبو عبيدة مجيباً: لأن رقابكم مثقلة بدماء عشرات الآلاف من الأبرياء الذين خُذلوا بصمتكم، وأن هذا العدو المجرم لم يكن ليرتكب هذه الإبادة حتى ضَمِن الصمت واشترى الخذلان.
جاء إعلان أبو عبيدة لهذه الخصومة، بعد عجز هذه النخب على مدى 22 شهراً، عن التدخل الفعلي نصرة لغزة وهي تواجه أشرس مذبحة عبر التاريخ. هل يحق لأبي عبيدة أن يحمّل هذه الأنظمة والنخب والأحزاب الكبيرة والعلماء مسؤولية الدماء التي أريقت على يد الوحش العبري وداعمه الأميركي؟
خصومة الملثم مع الأنظمة واضحة ومختلفة، فالنظام المصري يحاصر غزة عبر رفح، وهو البلد العربي المشرف مباشرة على تفاصيل المجزرة ومسؤوليته مباشرة في ذلك، وهو أكبر بلد عربي وجيشه من أكبر جيوش الشرق الأوسط، وكذلك كل أنظمة التطبيع التي يرتفع فيها علم إسرائيلي أو يحكمها سفير أميركي، وقد شاركت في تزويد الكيان العبري بالغذاء والمتاع وكثير من مكوّنات آلة الحرب من عمان ودبي حتى أنقرة، وشارك أكثرها في اعتراض الهجمات الإيرانية واليمنية على “تل أبيب”، لكن خصومة الملثم أبي عبيدة للنخب والأحزاب الكبيرة والعلماء، ووضع الدماء الغزية في أعناقهم، وأن الكيان الإسرائيلي اشتراهم ليصمتوا ويخذلوا غزة، هذه خصومة تستحق التوقف والتدقيق.
تتذرع كثير من الأحزاب الكبيرة سواء كانت إسلامية أو قومية، أن حماس لم تشاورها في هجوم السابع من أكتوبر، فهي لم تكن جاهزة لمواجهة تطوّر مفصليّ حادّ كهذا، وحماس ربطت نفسها بمحور المقاومة فهو المسؤول عن نصرتها، إضافة إلى أن جميع الأحزاب في العالمين العربي والإسلامي مقموعة، كما أن العلماء والنخب الفكرية والسياسية محاصرة من أنظمة القمع التي تحاصر غزة وتحارب قوى المقاومة.
تتراكم ذرائع الأحزاب والعلماء والنخب لتحاكي واقع أنظمة السوء، متجاهلة جملة القضايا الجوهرية التي يجب التعامل معها كمحددات فكرية ونفسية وسياسية:
أولاً: احتفت جميع القوى والمؤسسات العلمائية بهجوم السابع من أكتوبر في ساعاته وأيامه الأولى، وهذا يحفظ لها ابتداء، خاصة لمن واصل ذلك، ومن انتقد هذا الهجوم أو رفضه ليس مقصوداً هنا لأن حاله حال أنظمة التطبيع في اصطفافها الضمني مع آلة الحرب الإسرائيلية الإعلامية والميدانية بشكل أو بآخر، إنما الحديث هنا عن قوى النهوض المفترضة في أمتنا، والتي تفاعلت مع “طوفان الأقصى” بالإشادة والمباركة، ما يعني مسؤوليتها الدينية والأخلاقية تجاه ذلك، وإلا فغزة في إطلاقها الطوفان ليست مجرد سندريلا لنبارك بطولاتها ونبكي ضحاياها ثم لا حول لنا ولا قوة عندما تدخل مرحلة الإبادة الجماعية.
ثانياً: تغنّت هذه القوى والمؤسسات بغزة وبطولاتها، واستثمرت غزة كعنوان إسلامي في سجالاتها الداخلية باعتبارها امتدادها الطبيعي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين التي ترتبط بحماس من زاوية الخلفية الفكرية والمرجعية الدينية، وأدنى قراءة في أدبيات جماعات الإخوان في الأردن ومصر وسوريا واليمن وحتى في تركيا، وكثير من التيارات السلفية والهيئات العلمائية، وإن بشكل أقل، نجد بطولات القسام ومقاومة حركة حماس وعاء تربوياً داخلياً، كما هي قضية رابحة في المزاودات السياسية يتباهى بها هؤلاء باعتبار الشراكة الفكرية، من هنا كان لزاماً على هذه القوى أن تدفع ثمن هذا الاستثمار بوقفة عملية ترفع فيها الذبح عن غزة.
ثالثاً: تعتمد كل القوى المذكورة قضية فلسطين في دعايتها الانتخابية أو التنظيرية وحجية برامجها السياسية، وصوابية خلفيتها الفكرية الدينية وحتى القومية أو الوطنية، وهو ما يجعلها ملزمة أمام استحقاق غزة أن توافق بين القول والفعل، وليس مجرد الادعاء من دون تقديم أدنى مشروع عملي في نصرة غزة أمام لحظتها التاريخية الفارقة بكل ارتداداتها العالمية.
رابعاً: يتوجب على هذه القوى، سواء انحدرت من خلفية إسلامية أو قومية أو من كلتيهما، أن تقدم إجابة عن السؤال الفلسطيني باعتبار فلسطين قضية مركزية أو أولى أو حتى مجرد مظلومية إسلامية وعربية، وهي تمر في أحلك محطة في تاريخها، وهذا لا يحتمل مجرد البيانات الميتة الخالية من أدنى مضمون عملي ليشكل فارقاً في وجه المذبحة المستمرة كل يوم عبر البث الحيّ والمباشر.
خامساً: تتبجح هذه القوى أنها تقف عند مسؤولياتها، ولا تعلن عجزها أو فشلها أو استقالة قادتها أو تنحيهم عن تصدر النخب الفكرية والسياسية الشعبية، ما يشير إلى دقة وصف الملثم أن الكيان الإسرائيلي لم يكن لينفذ حرب الإبادة إلا وقد ضمن شراء هذه القوى بالصمت والخذلان، كان يمكن للمفتي وشيخ الأزهر والنجف والزيتونة وخطيب مكة كما هيئة الإرشاد في الجماعة الكبرى وأعضاء المكتب السياسي والشورى في الأحزاب القومية والإسلامية ذات الامتدادات الشعبية، وغيرهم ممن يتصدر المشهد في أمتنا، كان يمكنهم أن يقدموا استقالاتهم من مناصبهم معلنين فشلهم، وأنهم بذلك يفسحون المجال لغيرهم من الطاقات الشابة لأخذ المسؤولية، وأنهم بذلك يحيلون القضية إلى الشعب فقد سقطت القوى أمام سؤال غزة، وعلى الشعب أن يختار علماء وقادة جدداً.
سادساً: خص الملثم أبو عبيدة بالذكر الأحزاب الكبيرة، لأنها بالفعل تضم الملايين من المؤطرين، ففي مصر وحدها صرّح عبد الحميد الغزالي، وهو من أبرز قادة الإخوان، أن عدد العاملين من أفراد الإخوان في مصر هو 10 ملايين عضو، إضافة إلى 5 ملايين مؤيد فكرياً، ما يجعلها أكبر حزب سياسي في العالمين العربي والإسلامي، وفي الأردن ما يتجاوز الـ50 ألفاً، وفي اليمن نحو 150 ألفاً، وفي المغرب عشرات الآلاف وكذا تونس وليبيا وسوريا، حيث وصل الإخوان في هذه البلدان إلى الحكومات والسيطرة على البرلمانات عبر الانتخابات أو غيرها، وهكذا في معظم البلاد العربية والإسلامية حتى العراق والمناطق الكردية كلها، وعبر أوروبا في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وأميركا، بل في داخل الكيان الإسرائيلي هناك الحركة الإسلامية الشمالية والجنوبية، خاصة الشمالية الممثلة في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وتضم الآلاف من المؤطرين بخصوصية موقعهم الجغرافي الحيوي.
سابعاً: تمتلك هذه القوى فرصاً ومجالات واسعة للتأثير، ولكنها لم تستخدم أيّاً منها سوى المشاركة عبر الشارع أحياناً في تظاهرات محدودة، والأنكى أن الأنظمة استخدمت هذه القوى ومعظم المشايخ في تخدير نبض الشارع ليبقى ضمن مستوى لا يحدث فارقاً ميدانياً، تحت مبرر الاستقرار وحماية أمن البلد، ما يعني تقديم المصالح الخاصة وهي مصالح متوهمة غالباً، وكأن هذا الأمن لا يتوفر إلا بسلامة السفارات الإسرائيلية في عمان والقاهرة والرباط وأنقرة، وأمان السفارات الأميركية في كل الدول العربية والإسلامية باستثناء إيران وأفغانستان اللتين ليس فيهما سفارة أميركية.
جاءت خصومة الملثم في بقية الوقت الضائع، حيث عقارب الساعة الرملية تقترب من إعلان ساعة الحقيقة حول سقوط كل راية ليست غزة والقدس ومخيمات الضفة عنوان كفاحها ضد المحتل الإسرائيلي-الأميركي على امتداد العالم، وهي خصومة أعلنها أبو عبيدة أمام الله، وإذا تبيّن بشكل قطعي نهائي أن هؤلاء لا يخافون خصومة الله أمام خصومة أميركا، عندها فإن أطياف الأمة عبر أجيالها المتجددة العاشقة لصوت الملثم وفعل القسام وسرايا القدس، ستلفظهم وتعلن خصومتها معهم في ميادين التغيير القادمة بتحوّلاتها التاريخية، بإذن الله.