إذا لم تتحرك مصر في موقف إنساني مفصلي كحصار غزة، فمتى تتحرك إذًا؟ وإذا لم تكن قادرة على النهوض بمسؤولياتها في قضيةٍ تمس صميم وجدان الأمة، فبماذا تُبرر وجودها ومكانتها في قلب العالم العربي؟ الواقع في غزة اليوم تجاوز حدود المعاناة ليبلغ مرتبة الإبادة البطيئة، ومع كل يوم يمر، يرتفع منسوب الجريمة وتنخفض احتمالات النجاة، ووسط كل ذلك تقف مصر رسميًا موقف المتواطئ إن لم نقل الشريك.
إنها ليست مجرد قضية سياسية، بل واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ المعاصر. شعبٌ محاصر منذ أكثر من 18 عامًا، يخضع لعدوان متواصل، ويُمنع من الغذاء والدواء والتنقل والعلاج. واليوم، في ظل الحرب المستمرة على القطاع منذ قرابة العامين، تتكشف أفظع فصول المأساة: مجاعة جماعية، انهيار كامل للنظام الصحي، تدمير البنية التحتية، وانقطاع متواصل للوقود والكهرباء والمياه.
وفي كل ذلك، يشير العالم بأصابع الاتهام إلى مصر. فمعبر رفح – شريان الحياة الوحيد لغزة – لا يزال مغلقًا في وجه الجرحى والجائعين والمشردين، وفتحه لم يرقَ حتى لأدنى حدود الإنسانية. ومهما حاول الإعلام الرسمي تبرير ذلك بـ«الدواعي الأمنية» أو «الترتيبات السيادية»، فإن الحقيقة أن ما يجري هو خيانة صريحة لكل مبدأ، ولكل عُرف إنساني أو ديني أو قومي.
ما عذر مصر؟ بل ما عذر شعبها؟ النظام لا يُنتظر منه غير ما يفعل، فهو لا يرى في فلسطين إلا عبئًا على مصالحه وموازناته وتحالفاته، أما الشعب المصري المسلم، ذو التاريخ العريق في مناصرة قضايا الأمة، فما موقفه؟ هل يرضى بهذا الذل أن يُرتكب باسمه؟ هل يقبل أن يُذكر في سجلات التاريخ أن غزة جاعت ومرضت وماتت، ومصر – الكبرى – كانت تملك المفتاح ولم تحرك ساكنًا؟
لا يكفي الشجب ولا التباكي على الشاشات. من يملك القرار، يملك المسؤولية. والواجب الشرعي والإنساني يُحتم على الدولة المصرية أن تفتح المعبر دون قيود، وأن تُنشئ جسرًا بريًا وجويًا وبحريًا لدعم صمود غزة، لا أن تتذرع بالحسابات السياسية لتبرير القتل بالجوع.
وما يُحزن أكثر أن غزة لا تطلب المستحيل، بل تطلب حقها في الحياة، تطلب أن يُكسر عنها الحصار، أن يُسمح لها بالحصول على ما يكفل بقاءها على قيد الكرامة. وإذا كانت مصر ترى أن سيادتها مرتبطة بإغلاق المعبر، فعلى أي سيادة تتحدث حين تكون شاهدةً على إبادة شعب جار وشقيق، ومانعةً لكل محاولة لنجاته؟
وإذا انتصر العدو – لا سمح الله – على غزة، فإن الخزي لن يطال العدو وحده، بل سيتجاوز إلى من ساند أو صمت أو وقف متفرجًا. ومصر حينها ستكون أول مَن يدفع الثمن، لأن السكوت عن الجريمة يعني منح الشرعية لها، ولأن الشعب الذي يسمح للجريمة أن تقع على حدوده دون ردٍّ، سيلقى ما لقيه من قبل من العار والخذلان والاحتقار الدولي.
على علماء الأزهر أن يصرخوا، وعلى النقابات أن تتحرك، وعلى الإعلاميين الشرفاء أن يفضحوا الخيانة، وعلى الشارع أن يقول كلمته. فغزة ليست قضية فلسطينية فقط، بل هي اختبار حقيقي لإنسانيتنا، وديننا، وشرفنا، ولا قيمة لأي اعتبارات أو حتى وجود للدولة المصرية بعد ما رأيناه من تواطؤ مع الكيان، وقريباً ستلقى نفس المصير حين تقرر إثيوبيا إقفال شريانها المائي، وعندها لن يجد المصريون من يتضامن معهم، فيما قادة النظام وعائلاتهم سيفرون قبل الجميع إلى خارج البلاد فهم لا ينتمون لها إلا بقدر ما تبقى من مصالحهم لا أكثر.