يحرص المخططون العسكريون في البنتاغون على استخدام مذبحة غزة كسابقة لعنفهم القائم على الإبادة الجماعية لإخضاع منافسين اقتصاديين مستقبليين مثل الصين وروسيا اللذين يهددان العقيدة الأميركية.
كشف تقرير، فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة، بعنوان “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية”، عن تجارة ضخمة وثقافة سيكوباتية (مريضة) وشراكة غربية كاملة في مشروع الاقتلاع والإبادة الجماعية الإسرائيلي، تورطت فيه مئات الشركات والمؤسسات الأميركية والغربية الكبرى.
يعتبر الصحافي البريطاني، جوناثان كوك، فهم هذا أساسيًا لفهم سبب استمرار شراكة العواصم الغربية في مجازر “إسرائيل”، حتى مع إجماع علماء الهولوكوست والإبادة الجماعية – ومنهم إسرائيليون – القاطع على أن أفعالها تُعدّ إبادةً جماعيةً.
تعتمد الأحزاب الحاكمة بالدول الغربية، كالولايات المتحدة وبريطانيا، بشكلٍ كبير على الشركات الكبرى، لتحقيق نجاحها الانتخابي، أو بعد فوزها بصناديق الاقتراع، في الحفاظ على شعبيتها من خلال ترويج “الاستقرار الاقتصادي”.
وصل كير ستارمر إلى السلطة في بريطانيا بعد رفضه نموذج التمويل الشعبي الذي تبناه سلفه في زعامة حزب العمال، جيريمي كوربين، وتوجّه إلى قطاع الشركات بوعودٍ بأن الحزب سيكون في جيوبهم.
كانت توكيداته أساسيةً أيضاً لضمان أن وسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات – التي انقلبت بشراسة على كوربين، وشتمته باستمرار ووصفته بأنه “معادٍ للسامية” بسبب مواقفه الاشتراكية الديمقراطية والمؤيدة لحقوق الفلسطينيين – مهّدت طريق ستارمر إلى رئاسة الوزراء.
في الولايات المتحدة، يمتلك أصحاب المليارات واحدًا منهم في السلطة، هو دونالد ترامب. واعتمدت حملته الانتخابية على تمويل كبار المانحين مثل ميريام أديلسون، الأرملة الإسرائيلية لقطب الكازينوهات الملياردير شيلدون أديلسون.
أديلسون من بين عدد من كبار المانحين، الذين يمولون كلا الحزبين الرئيسيين، ولا يترددون في تأكيد أن “إسرائيل” أولويتهم السياسية الأولى. وبمجرد وصول الأحزاب إلى السلطة، تصبح رهينة للشركات الكبرى في مجالات واسعة من السياسة الداخلية والخارجية.
ثقافة مريضة
اضطر دافعو الضرائب إلى إنقاذ القطاع المالي – ولا يزال الأمر كذلك من خلال “تدابير التقشف” – بعد أن أدت تجاوزاته المتهورة إلى انهيار الاقتصاد العالمي أواخر العقد الأول من هذا القرن. اعتبرت الحكومات الغربية البنوك “أكبر من أن تفشل”.
وبالمثل، فإن “إسرائيل” – أكبر حاضنة في العالم لصناعات الأسلحة والمراقبة والقمع – أكبر من أن يُسمح لها بالفشل هي الأخرى، حتى وهي ترتكب إبادة جماعية.
لاحظ منتقدو صعود الشركات العالمية خلال نصف القرن الماضي، مثل عالم اللغويات الشهير، نعوم تشومسكي، وأستاذ القانون، جويل باكان، منذ فترة طويلة السمات النفسية المرضية المتأصلة في ثقافة الشركات.
الشركات مُلزمة قانونًا بالسعي وراء الربح وإعطاء الأولوية لنمو قيمة حصص المساهمين على أي اعتبارات أخرى. وتنعدم القيود المفروضة على حريتها في القيام بذلك تقريباً بعد موجات إلغاء القيود التنظيمية من قِبل حكومات الغرب الخاضعة لها.
يلاحظ باكان أن الشركات لا تُبالي بمعاناة الآخرين أو سلامتهم، وتعجز عن الحفاظ على علاقات دائمة. بل تفتقر إلى أي شعور بالذنب، أو القدرة على ضبط النفس. وهي تكذب وتغش وتخدع لتحقيق أقصى قدر من الأرباح. وتجلّت هذه الميول السيكوباتية (المريضة) في فضيحة تلو الأخرى، سواء من قِبَل شركات التبغ والبنوك، أم من قِبَل شركات الأدوية والطاقة.
لماذا تُحسن الشركات الكبرى التصرف في سعيها وراء أرباح مرتبطة بالإبادة الجماعية في غزة؟
يُخاطب باكان أولئك الذين يخلطون بين حجته ونظرية المؤامرة. إن السلوكيات السيكوباتية (المريضة) للشركات تعكس ببساطة الضرورات القانونية المفروضة عليها كمؤسسات – ما يُسميه باكان “دينامياتها المنطقية” – لتعظيم الربح وتهميش المنافسين، مهما كانت العواقب على المجتمع الأوسع والأجيال المقبلة والكوكب.
الانغماس في الإبادة الجماعية
إن المخاطر في غزة كبيرة بالنسبة للحكومات الغربية تحديدًا، لأنها كبيرة جدًا بالنسبة لعالم الأعمال الذي يزدهر بسبب الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
فهناك مصلحة مشتركة ساحقة للحكومات والشركات الغربية في حماية “إسرائيل” من التدقيق والمساءلة والنقد: فهي بمنزلة كلب هجوم استعماري في الشرق الأوسط الغني بالنفط، ومصدر دخل كبير لصناعات الأسلحة والمراقبة والسجون.
وهذا يفسر لماذا استثمر ترامب وستارمر، من جهة، وإدارات الجامعات، من جهة أخرى، الكثير من رأس المال السياسي والمكانة الأخلاقية في سحق مساحات الحرية، وخاصة في الأوساط الأكاديمية، حيث يُفترض أن تكون حرية التعبير والاحتجاج أكثر قيمة.
الجامعات ليست طرفًا محايدًا على الإطلاق. قبل أن تهدم الشرطة مخيمات الاحتجاج الجامعية، سعى الطلاب المتظاهرون إلى تسليط الضوء على مدى استثمار الجامعات الكبير في اقتصاد الاحتلال والإبادة الجماعية، ماليًا ومن خلال شراكات بحثية مع الجيش الإسرائيلي والجامعات الإسرائيلية. فالحاجة لإبعاد “إسرائيل” عن التدقيق والمساءلة تُفسر أيضًا التحركات السريعة في الغرب لوصف كل جهد يُبذل لمحاسبة “إسرائيل”، أو جيشها المُرتكب للإبادة الجماعية، بـ”معاداة السامية”.
وفي شهر يوليو/تموز الماضي، تجلّى مدى استماتة الحكومات، حيث أثار مسؤولون بريطانيون ووسائل إعلام رسمية موجة غضب بعد أن هتفت فرقة بانك بمهرجان غلاستونبري “الموت، الموت للجيش الإسرائيلي!”، في إشارة إلى جيش الإبادة الجماعية الإسرائيلي.
ومع تراجع قوة تهمة “معاداة السامية” نتيجة سوء استخدامها، تُعيد العواصم الغربية صياغة قوانينها لتصنيف أي محاولة لعرقلة اقتصاد الإبادة الجماعية، وتعطيل مصانع الأسلحة، كـ”إرهاب”.
وتُهدر الأخلاق والقانون الدولي لإبقاء أهم فرع استعماري غربي مُربحًا.
بزنس كالمعتاد
إن أهمية “إسرائيل” بالنسبة لقطاع الشركات والطبقة السياسية الغربية المأسورة تمتد إلى ما هو أبعد من غزة الصغيرة. فـ”إسرائيل” تلعب دورًا هائلًا كحاضنة للصناعات الحربية في ساحة معركة عالمية يسعى فيها الغرب لضمان استمرار تفوقه العسكري والاقتصادي على الصين.
ففي شهر يونيو/حزيران الماضي، يقول كوك، اجتمعت نخبة الأعمال العالمية – وتضم مليارديرات التكنولوجيا وعمالقة الشركات، مع قادة سياسيين وإعلاميين ومسؤولين عسكريين واستخباريين – مرة أخرى في قمة محفل بيلدربيرغ، التي استضافتها ستوكهولم هذا العام، بعيدًا عن عيون الإعلام. وكان من أبرز الحاضرين الرؤساء التنفيذيون لشركات كبرى موردة ومصنعة للأسلحة، مثل بالانتير، وتاليس، وهيلسينغ، وأندوريل، وساب.
كانت حرب الطائرات المسيّرة – التي يستخدمها عملاء عسكريون رئيسيون مثل “إسرائيل” وأوكرانيا بطرق مبتكرة – على رأس جدول الأعمال. يبدو أن التكامل المتزايد للذكاء الاصطناعي في الطائرات المسيّرة كان ركيزة أساسية في المناقشات.
كان العنوان الضمني لهذا العام، كما في السنوات الأخيرة، هو التهديد المتزايد المفترض من الصين و”محور الاستبداد” المرتبط بها ويضم روسيا وإيران وكوريا الشمالية. ويُنظر لهذا التهديد بشكل رئيس اقتصاديًا وتكنولوجيًا.
في أيار/ مايو، كتب إريك شميدت، رئيس شركة غوغل السابق وعضو مجلس إدارة محفل “بيلدربيرغ”، بقلق في “نيويورك تايمز”: “الصين على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، أو تتقدم عليها في مجموعة تقنيات متنوعة، ولا سيما الذكاء الاصطناعي”.
وأضاف شميدت أن الغرب يخوض سباقًا ضد الصين بشأن التطوير الوشيك للذكاء الاصطناعي فائق الذكاء، والذي من شأنه منح الفائز “مفاتيح السيطرة على العالم بأسره”. ويتوقع كغيره من رواد محفل بيلدربيرغ، أن الاحتياجات المُستنزفة للذكاء الاصطناعي الفائق ستؤدي إلى حروب طاقة مُتصاعدة باستمرار، ليبقى الغرب مسيطرًا.
أو كما لخّص تقرير “الغارديان” عن الأجواء السائدة في المؤتمر: “في هذا السباق اليائس، حيث يظفر الفائز بكل شيء وبمفاتيح العالم، وتتزايد فيه أهمية “الجغرافيا السياسية للطاقة”، وتصبح محطات الطاقة – بجانب مراكز البيانات التي تغذيها – الأهداف العسكرية الأولى”.
وهكذا، يُنظر إلى مذبحة “إسرائيل” في غزة أنها تلعب دورًا حاسمًا في فتح “ساحة المعركة”.
الشركات المتربحة نفسها من الإبادة الجماعية في غزة ستستفيد من بيئة أكثر تساهلاً – قانونيًا وعسكريًا – أوجدتها “إسرائيل” لحروب المستقبل، حروب لا يُحتسب فيها المدنيون الذين تقتلهم المذابح سوى “وفيات عرضية”.
وتناول مقال نُشر في شهر نيسان/ أبريل بمجلة “نيويوركر” تحديًا يواجه المخططين العسكريين الأميركيين، الذين اعتبروا أنفسهم مُقيّدين منذ ثمانينات القرن الماضي بظهور مجتمع حقوق الإنسان الذي طوّر خبرة في قوانين الحرب بشكل مستقل عن تفسيرات البنتاغون الأنانية.
النتيجة، كما يقول الجنرالات الأميركيون بأسف، هي “نفور عام من مخاطر الأضرار الجانبية” – أي من قتل المدنيين.
يحرص المخططون العسكريون في البنتاغون على استخدام مذبحة غزة كسابقة لعنفهم القائم على الإبادة الجماعية لإخضاع منافسين اقتصاديين مستقبليين مثل الصين وروسيا اللذين يهددان العقيدة الأميركية الرسمية المتمثلة بـ”الهيمنة العالمية الشاملة”.
تطرح مجلة “نيويوركر” هذا التفكير: “لا تبدو غزة مجرد بروفة لنوع القتال الذي قد يواجهه الجنود الأميركيون، بل هي اختبار لمدى تحمل الرأي العام الأميركي لمستويات الموت والدمار التي تنطوي عليها مثل هذه الحروب”. ووفقًا للمجلة، فإن عنف الإبادة الذي تطلقه “إسرائيل” يفتح “مساحة المناورة القانونية” – أي المساحة اللازمة لارتكاب جرائم ضد الإنسانية على مرأى ومسمع الجميع.
يستنتج كوك أنه من هنا يأتي جزء كبير من دوافع العواصم الغربية لتطبيع الإبادة الجماعية – وتصويرها كأمر معتاد – وتشويه سمعة معارضيها. فشركات صناعة الأسلحة والتكنولوجيا، التي امتلأت خزائنها من الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، على وشك تحقيق ثروات أكبر بكثير من حرب مدمرة مماثلة ضد الصين.
مهما كانت الخطة التي تُروّج للرأي العام، لن يكون هناك أي معنى أخلاقي أو وجودي في هذه المعركة المقبلة. وكما هي الحال دائمًا، ستكون معركة الأغنياء الراغبين في زيادة ثرواتهم!
