في ذروة المجاعة خرج الناطق العسكري باسم كتائب القسام موجّهاً خطابه إلى من خذلوا الدم وهم يرتدون عباءة الدين، أبو عبيدة لم يناشد؛ بل خَاصَم، ووضع العلماء أمام المحكّ الشرعي والتاريخي، إذ تحوّل بعضهم إلى شهود زور يصافحون المذبحة بصمت، أو يبرّرونها بلغة مراوغة لا تشبه الفقه ولا المروءة، واليوم وبينما يشتد الخناق على غزة، ينشغل بعض من يسمّون “علماء الأمة” بتزييف وعي الجماهير، يعلنون من أبراجهم الآمنة أن المجاعة قد انتهت، وكأنهم ناطقون باسم من قتل، لا باسم من جاع وقُصف وأُبيد.
الخذلان هنا ليس في الصمت فقط، بل في خيانة الموقف، وتشويه الحقيقة، وتزيين الجريمة بكلمات مطلية بالوهم، فهؤلاء ليسوا على الحياد؛ بل خصومٌ للميدان، وخصومٌ لأهل الرباط الذين ما باعوا الموقف ولا تخلوا عن التكليف، وهكذا يصبح العالم الذي لا ينصر غزة في زمن الإبادة، جزءً من آلة القتل، حتى لو لبس ألف عمامة.
لطالما كانت منابر العلماء خندقاً أول في مواجهة الطغيان، ومحرّكاً للأمم في معارك التحرّير، فلم تكن الفتاوى مجرد أحكام مجرّدة، بل صيحات تعبئة تسبق رصاص المقاومة وتؤسّس لها، والتاريخ يشهد من الأزهر إلى الزيتونة، ومن مكة إلى القدس، وقف العلماء يوماً ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي، حرّكوا الجموع، وهتفوا للحق، وكانوا صدى لصوت المظلوم، لكن اليوم حين تبلغ الإبادة في غزة ذروتها، تُصادَر المآذن وتُحجَب الفتاوى، ويغيب الخطاب الجهادي كما لو أن الدم الفلسطيني لا يُوجب الغضب، ولا يحرك الضمير.
هذا الصمت ليس حياداً بل انحياز، وهو ليس تقصيراً عابراً، بل تعطيل لمنبرٍ خُلِق ليشهد لا ليصمت، وإن تغييب العلماء عن واجبهم في لحظة كونية كالتي تشهدها غزة، هو انقلاب على وظيفة العالم، ونكوص عن الشرف قبل التكليف.
خطاب أبو عبيدة لم يكن تصعيداً عاطفياً، بل موقفاً محسوباً في الزمن الأشدّ احتياجاً للمراجعة والمصارحة، فلقد تخلّى فيه عن لغة المجاملة، وخاطب العلماء بلسان الدم المهدور، ليعلن أن التاريخ لن يغفر لمن تخلّف عن الشهادة في وقت الامتحان، فهو لم يدعُ لهجوم، بل دعا لموقف، لم يطلب الولاء لحركة، بل نصرة لأمّة تُباد ويُذبح أطفالها على مرأى من العمائم والقمم والمنصات، وإنّ تخصيص العلماء بالخطاب في هذه اللحظة، هو بمثابة فتح لسجلّ الحساب، تمييزٌ بين من جعلوا العلم طريقاً للحق، ومن جعلوه واجهة للتملق السياسي أو الصمت المذلّ.
أن تُنكر المجاعة في غزة وأمعاء أطفالها تلتحف الهواء، فتلك ليست سقطة، بل خيانة خطابية تتقاطع مع أدوات العدو في كيّ وعي الناس وتزييف حقائق الميدان، وحين يخرج بعض الدعاة النجوم ليُطمئنوا متابعيهم من خلف الشاشات بأن الوضع الغذائي تحسّن، ويعلن أحدهم انتهاء المجاعة، فإنهم لا يقدمون رأياً، بل يوقعون على صكّ تبرئة لجلاد ما زال يقطع الإمدادات ويحاصر المستشفيات، ونحن هنا نتسائل: أيّ فهم مغلوط للفقه يدفع بعالم إلى إنكار الشهادة الحيّة لأهل غزة، وهي تُبثّ لحظة بلحظة عبر صور الوجع والوجوه المحفورة بالجوع؟
إن من يختزل المجاعة في عدّة شاحنات مساعدات، أو يروّج لانفراج وهمي، يُشرعن الجريمة بدل أن يفضحها، ويقف في صف القاتل بدل أن ينتصر للمذبوح، إنها جريمة خطاب، توازي في بشاعتها جريمة الحصار، وتُدين قائلها أمام شهود الميدان، وأمام الله.
ما أصعب أن تُباع المنابر في سوق المناصب، لقد كشفت غزة أن بعض العلماء لم يُمسكوا بميزان الشرع، بل بمسطرة السياسة، يقيسون مواقفهم بما لا يُغضب مموليهم، لا بما يُرضي ضميرهم أو يُنقذ شعباً تحت النار، فصارت البيانات خاضعة للمزاج الرسمي، والدعاء انتقائياً لا يُغضب سفارات، والخطب تصعد المنبر محنطة، لا تنبض فيها روح النصرة ولا عرق الكرامة، هذه الموازنات المزيفة ليست فقهاً بل تهرّب وجبن مغلّف بالدبلوماسية، وغزة اليوم لا تحتاج لعالمٍ يُحسن التأويل بل لعالم يُجيد الاصطفاف، فالعالم الذي يطلب فتوى من سلطانه قبل أن يطلبها من وجدانه، هو خصم لا شاهد.
في زمن المجازر لا يكون العالم شاهداً على الحدث، بل جزءً من معادلته، فإن اختار الصمت، صار شريكاً في ستر الجريمة، وإن اختار التبرير، صار غلافاً ناعماً لبشاعة العدو، من هنا فإن ما يُطلب من العلماء اليوم ليس خطاباً عاماً أو دعاءً فضفاضاً، بل موقفاً صريحاً وفعّالاً يرقى إلى مستوى الحدث والمجازر، لقد أطلق أبو عبيدة نداءه لا بوصفه متحدثًا عسكرياً، بل باعتباره حاملاً لأمانة شرعية وأخلاقية، يُسائل بها العلماء على ميزان الجهاد لا ميزان التوازنات، فما هي خارطة الواجب؟
ولهذا، فإنني أضع هنا خطة تحرك عاجلة، تليق بمقام العلماء وتُترجم فقه النوازل إلى فعل ناصر، لا وصف عاجز:
أولاً: مواجهة الحكام ومصارحتهم: يجب الدخول الفوري على رؤساء الدول العربية والإسلامية، لا بمجاملات بروتوكولية، بل بكلمة الحق التي لا تخشى سلطاناً ولا ترضى بالدنية، وقولوا في وجوههم: أوقفوا تصدير الغاز للصهاينة ولحلفائهم، أغلقوا أنابيب العار، فأنتم تملكون ورقة قوة ما تزال تُستخدم خنجراً في خاصرة غزة، وطالبوهم بنقض الاتفاقيات مع العدو، وتجميد التعاون الأمني والاقتصادي معه، فالاحتلال لا يرتدع إلا إذا دفع الثمن، ومن لا يقدر على ذلك فليُعلن أنه ممنوع، ولْيجعل من منعه قضية رأي عام.
ثانياً: التحرك الشعبي بقيادة العلماء: في لحظة تاريخية كاشفة كهذه، لا يكفي للعلماء أن يصدروا بيانات صامتة أو أدعية تائهة بين المذابح، لقد أصبح واجبهم أن يكونوا في مقدّمة الصفوف، لا خلف المتاريس الكلامية، وأن يتحوّل فقههم إلى فعل ميداني مباشر، لا مجرد خطب عائمة في فضاء الإنترنت، فالعالِم الذي لا يجرؤ على قيادة الجماهير نحو الفعل الجماعي المنظّم، لن يكون يوماً في صفّ الشعوب، بل في صف التحايل الشرعي على الدم، وهنا تتحدد المهمة الاستراتيجية: فالعالم المجاهد اليوم هو من يحشد لا من يُحذّر، ومن يقود لا من يُحايد، ومن ينزل إلى الميادين لا من ينأى بنفسه عن الفتنة، ولأقترح هنا خطة عمل ميدانية:
الدعوة العلنية للاعتصامات والتحرّكات الشعبية في العواصم العربية والإسلامية: يجب أن يُعلن العلماء في خطبهم ومنصاتهم، وبصوتٍ موحّد، دعوةً مفتوحة للنزول الجماهيري، مع تحديد مواقع الحراك، وعدم الاكتفاء بإدانة العدوان بل تحريضٌ مشروع ضد الحصار والتواطؤ.
الاعتصام المفتوح أمام سفارات الدول المساندة للعدو: لا يُعقل أن تبقى سفارات أمريكا وفرنسا وبريطانيا محصّنة من نبض الجماهير، بينما وقود غزة يُسكب من قراراتهم، العالِم الثائر هو من يقف أمامها ويأمر تلاميذه بالصمود هناك.
إقامة خيام اعتصام على معابر العار والحدود المغلقة: آن للعلماء أن يرفعوا غطاء الشرعية عن الحصار العربي لغزة، وأن ينزلوا بأنفسهم إلى رفح وسَلوى وطريبيل، حيث تُكسر السيادة لصالح العدو، وتُقبر الكرامة تحت ركام المعابر.
المطالبة بوقف التطبيع من داخل البرلمانات والمجالس: من يملك منبراً دينياً أو شرعياً، يجب أن يوجّه خطابه نحو الضغط البرلماني والحقوقي لسنّ قرارات ضد التطبيع، ومقاطعة البضائع، والتعامل مع الكيان الصهيوني في الإعلام والتعليم والأمن.
بناء قيادة ميدانية موحّدة للتحرك الشعبي: يقودها علماء معروفون بمواقفهم الثابتة، كـ:
د. محمد الصغير-مصر، الشيخ عكرمة صبري – فلسطين / القدس، د. نواف التكروري–فلسطين / الأردن، د. عصام أحمد البشير– السودان، الشيخ د. علي القره داغي – العراق / قطر، د. أحمد الريسوني – المغرب، الشيخ محمد الحسن الددو – موريتانيا، الشيخ علي أرباش –تركيا، الشيخ غانم بن شاهين غانم الغانم –قطر، الشيخ أسامة الرفاعي – سوريا، د. حاكم المطيري – الكويت، د. عمر عبد الكافي – مصر، الشيخ د. غيث بن مبارك الكواري – قطر، د. محمد إبراهيم الوسمي – الكويت، الشيخ المفتي محمد طارق عثماني –باكستان، الشيخ مفتي محمد منيب الرحمن –باكستان، مولانا فيض الرحمن –باكستان، د. محمد الخلايلة –الأردن، الدكتور سعيد فودة –الأردن، الشيخ يوسف بلمهدي –الجزائر، الشيخ إبراهيم الشائبي –تونس.
هؤلاء وغيرهم يُفترض أن يشكّلوا “مجلس العلماء من أجل غزة”، يضمّن في بيانه الأول دعوة للاعتصام الشعبي في 100 مدينة، فمن لا يخطب على منبر الشارع، لا يجوز له أن يتصدّر منبر المسجد، ومن لا يرى أن الساحات اليوم هي جزء من الفرض الشرعي، فليعتزل الفقه والموعظة، وليترك الأمر لأهل الدم.
ثالثاً: العصيان المدني الرمزي: الدعوة إلى أيام امتناع رمزية عن العمل والشراء والخروج إلا لنصرة غزة، لتُشهر الشعوب غضبها، واستخدام المنابر لحشد الأمة لهذا العصيان الرمزي، ليشعر العدو أننا جسد واحد لا يُقتل أحد أفراده ونحن نأكل ونلهو، فليس المطلوب أن تشهر الشعوب سلاحاً لتُشعر العدو أنها حاضرة، بل أن تشهر غضبها المنظم وأن تعلن رفضها لكل حياة طبيعية في زمن المجاعة والإبادة، وعلى العلماء أن يرفعوا راية هذا العصيان من فوق المنابر، ليكن هذا العصيان صوت الأمة العالي ضد التجاهل، وتعبيرها بأن غزة ليست هامشاً في نشرة الأخبار، بل جرح في قلب الأمة لا يلتئم بالصمت.
رابعاً: المقاطعة الشاملة: الإعلان من المنابر والبيانات مقاطعة كل منتج يدعم كيان الاحتلال، وكل مؤسسة تساند إبادة غزة، وتعليم الناس أن الشراء سلاح، وأن الدولار المُنفق قد يتحول إلى رصاصة، وعلى العلماء أن يصدروا بيانات موحدة تُجرّم دعم المنتجات الصهيونية، وتُرشد الناس إلى البدائل، وتشرح بأن المقاطعة ليست خياراً فردياً بل فرضاً جماعياً.
خامساً: التحريض المشروع المستمر: المنابر، الفضائيات، الإذاعات، الجامعات، حسابات العلماء والدعاة في السوشيال ميديا، كلها يجب أن تتحول إلى جبهات تحريض مشروع على نصرة غزة ومقاومة الاحتلال، لا تُترك جمعة تمرّ دون ذكر الشهداء والمجازر، ولا تُلقى خطبة دون الدعوة لنصرة غزة بكل السبل، ولا يُنشر محتوى إلا وهو يضع الحقيقة المجردة أمام الناس، فالتحريض المشروع ليس دعوة للفوضى، بل هو صحوة ضمير تفضح العدو وتستنهض الشعوب وتحرّك الرأي العام العالمي، وهذا هو جهاد الكلمة، ومن لا يملك البندقية، لا يُعفيه ذلك من أن يكون صدى البندقية، وحامل أمانتها في وجه القهر الإعلامي.
لسنا هنا في مقام الرثاء، بل في ذروة معركة تُعيد تعريف الأمة وموازينها، فغزة لا تنتظر من علمائنا ترفَ التحليل، ولا حيادَ الفتوى، بل تنتظرهم حيث يقف الدين إلى جوار الدم، وحيث تُكتب الفتاوى بسواعد المجاهدين لا بحبر المكاتب، وإننا في زمن المجاعة والإبادة نُدين بصوت عالٍ كل من خذل غزة من أهل العمائم، وكل من بدّل تكليف الشرع بمجاملة السياسة، وكل من جعل ميزان الحق تابعاً لمكتب أمير أو سلطان.
وغزة التي رفعت عن الأمة الإثم بالدم، لن تُسامح من تستر على الجريمة باسم التوازن، ولن تنسى من وَقف على المنابر وادّعى أن المجاعة قد انتهت، بينما الطفل ما زال يبحث في التراب عن كسرة حياة، نقولها بوضوح لا لبس فيه: نتبرأ من كل عالمٍ تواطأ بصمته، ونتقرب إلى الله بمناصرة الحق وأهله، فالساكت على الدم خائن، ومَن زيّف وعي الأمة شريكٌ في الجريمة.
الحق لا يُؤخذ بالإجماع، بل يُؤخذ بالعزائم، والفتوى لا تُصاغ في بلاط الحاكم، بل في خندق المبدأ، ومن أراد النجاة فليُعلن انحيازه الآن، قبل أن يُنادى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد: كنتَ معهم؟ فماذا قلتَ يوم اشتد البلاء؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. أميرة فؤاد النحال
كاتبة فلسطينية في الشأن السياسي