لم يعد استهداف العدوّ الصهيوني للعاصمة صنعاء مُجَـرّد غارة عسكرية تقليدية تهدف إلى تدمير هدف محدّد، بل أصبح جزءًا من معركة مركّبة تتداخل فيها النار مع الكاميرا، والصاروخ مع الصورة.
فعلى المستوى العسكري، لا تمثّل المنشآت النفطية في صنعاء هدفًا حاسمًا يمكن أن يغيّر مسار المواجهة أَو يفرض معادلات جديدة على الأرض. فالبنية التحتية في اليمن، رغم أهميتها، ليست مرتبطة بمراكز القيادة والسيطرة العسكرية، وبالتالي فإن قصفها لا يضيف للمعتدي مكسبًا ميدانيًّا ملموسًا، ولا يقرّبه من تحقيق أهداف سياسية أَو عسكرية بعيدة المدى.
أما على المستوى الإعلامي، فإن التركيز الحقيقي للعدو ليس على الأثر العسكري المباشر، بل على المشهد البصري الذي ينتج بعد الضربة: ألسنة لهب ترتفع إلى السماء، وسحب دخان كثيف تمتد لعشرات الكيلومترات، وصور وفيديوهات تتسابق الفضائيات ووسائل التواصل في بثها وتداولها. وهنا يتحوّل الدخان إلى أدَاة دعاية أكثر من كونه نتيجة قصف. فالصورة بالنسبة للعدو سلاح لا يقل تأثيرا عن الصاروخ، بل قد يكون أشد وقعًا في الحرب النفسية، خُصُوصًا حين تُسوَّق على أنها “إنجاز عسكري نوعي”.
هذا السلوك يعكس أزمة حقيقية في عقل العدوّ الاستراتيجي؛ فالقوة التي تعجز عن إحداث اختراق ميداني ملموس، ولا تحقّق تفوقًا عسكريًّا، تبحث عن بدائل رمزية لتعويض الفشل. وهكذا يصبح الدخان ستارًا يغطّي العجز، والصورة غنيمة المعركة الوحيدة، بينما تُستثمر الحرب الإعلامية كوسيلة لتعويض الانكسار على الأرض.
ومن زاوية الحرب النفسية، يُراد لهذه المشاهد أن تبث الخوف والإحباط في قلوب المدنيين، عبر الإيحاء بأن العدوّ قادر على ضرب عمق العاصمة متى شاء، وأن الحياة الطبيعية يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى جحيم من النار والدخان. غير أن التجربة اليمنية الطويلة مع العدوان أثبتت أن مثل هذه الأساليب قصيرة الأثر؛ فما إن تنقشع الغارة حتى يدرك الناس أن ما يحاول العدوّ تسويقه لا يغيّر من واقع الصمود شيئًا، بل يزيد وعيهم بضعفه وتخبّطه.
والدخان الكثيف الذي يملأ السماء، وإن كان يُراد له أن يحجب الرؤية، إلا أنه لا يستطيع أن يخفي الحقيقة الجوهرية: المعتدي مأزوم، الحرب طالت دون أن تحقّق أهدافها، والفشل يتسع كلما لجأ العدوّ إلى الرمزية البصرية بدلًا عن الإنجاز الميداني.
في النهاية، قد يمتلك العدوّ القدرة على صناعة صورة إعلامية ضخمة، لكنه لا يملك القدرة على تغيير معادلة الوعي والصمود. فاليمنيون الذين جرّبوا هذا الأُسلُـوب مرارًا باتوا أكثر إدراكًا أن الحرب بالصورة ليست إلا اعترافا صريحًا بالفشل على الأرض.
البُعد السياسي: التطبيع وتبرير العدوان
الأخطر من كُـلّ ذلك أن هذه الصور الدرامية لا تخدم فقط الحرب النفسية، بل تُستثمر سياسيًّا في خدمة المشروع الصهيوني بالمنطقة. فحين تُقدَّم الضربات على أنها مواجهة مع “خطر إقليمي”، يصبح التطبيع العربي مبرّرا على أنه تحالف مشروع مع إسرائيل ضد “عدو مشترك”. كما تُستخدم هذه المشاهد لتغطية جرائم العدوّ في غزة وفلسطين المحتلّة، وإعادة تسويق “هيبة الجيش الإسرائيلي” أمام حلفائه الذين اهتزت ثقتهم به بعد سلسلة من الإخفاقات.
هكذا، يتحول الدخان في سماء صنعاء إلى أدَاة سياسية بقدر ما هو أدَاة إعلامية، هدفها النهائي ليس كسر اليمن وحسب، بل تثبيت مكانة “إسرائيل” كقوة مركزية في المنطقة، وتطويع الأنظمة العربية خلف مشروعها. غير أن الحقيقة التي لا يغيّرها كُـلّ هذا الضجيج: أن اليمن عصيٌّ على الكسر، وأن صورة الدخان مهما تضخّمت لن تُخفي واقع الفشل الصهيوني.