المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    لماذا تصرّ “إسرائيل” على استهداف الإعمار المدني في جنوب لبنان؟

    من اللحظات الأولى التي عاد فيها الجنوبيون إلى قراهم...

    سياسة الرهائن.. أداة الإمارات للهيمنة على مرتزقتها

    منذ عشر سنوات والإمارات تمارس دورها المشبوه لصالح الكيان...

    سقوط الفاشر.. قراءة تحليلية في ملامح الحرب الحديثة

    ما حدث في الفاشر لم يكن مُجَـرّد سقوط ميداني...

    اليمن.. شعبٌ وجيشٌ واعي وموحد كدرع للأمة

    في زمنٍ تمزّقت فيه أوصال الأمة، وتبدّدت فيه إرادات...

    استراتيجية الهدن والمهادنة..

    استراتيجية العدو الصهيوني في جنوب لبنان وغزة هي: أنه...

    سقوط الفاشر.. قراءة تحليلية في ملامح الحرب الحديثة

    ما حدث في الفاشر لم يكن مُجَـرّد سقوط ميداني تقليدي أَو هزيمة في معركة، بل نموذج صارخ لحرب من نوع جديد تُدار بالمعلومة والإشارة، لا بالبندقية والمدفع.

    لقد دخلنا زمنًا تتحوّلُ فيه الذرّة الإلكترونية إلى ما يعادل الطلقةَ القاتلة، وزمنًا تكون فيه السيطرة على موجة الاتصال أخطر من السيطرة على موقع استراتيجي.

    فالمشهد الذي شهدته الفاشر أعاد إلى الأذهان لحظاتٍ تاريخيةً فارقة، مثل انسحاب نابليون من موسكو حين أعمى البرد والجوع جيوشه، أَو حرب الخليج الأولى (عاصفة الصحراء) عندما كان قطع الاتصالات السلاح الحاسم في شلّ القيادة العراقية.

    في كلتا الحالتين لم تكن الهزيمة ميدانية خالصة، بل كانت هزيمة تكنولوجية واتصالية.

    وهذا بالضبط ما حدث في الفاشر: انهيار داخلي سببه الشلل الاتصالي لا الهزيمة القتالية.

    فجأة وجدت الوحدات العسكرية نفسها في عزلةٍ تامة داخل المدينة، بلا أوامر ولا توجيهات، فيما كانت المليشيا المدعومة خارجيًّا تتقدّم نحو العمق بخطواتٍ محسوبةٍ بدقّة.

    انهارت المواقع تباعًا وسقط عدد من القادة، بينهم المتحدث الرسمي للقوات المشتركة، فظهرت الفوضى وكأنها خيانة داخلية، بينما كانت في الحقيقة ضربة استخباراتية محكمة.

    تباينت التفسيرات وردود الفعل كعادتها في لحظات الانكسار:

    اتّهامات بالخيانة، حديث عن اختراقات داخلية، وربط الحدث بمفاوضات وقف إطلاق النار في واشنطن.

    غير أن الحقيقة – كما كشف حاكم الإقليم نفسه – كانت أعمق بكثير:

    الدولة التي تموّل تلك المليشيا استعانت بأجهزة استخباراتٍ عالمية لقطع الاتصالات داخل المدينة، فحدث الشلل الكامل وانهارت خطوط القيادة، ليتحوّل المشهد إلى ما يسميه العسكريون «العمى التكتيكي».

    بهذا المعنى فإن سقوط الفاشر لم يكن نتيجة خيانة داخلية بقدر ما كان هزيمة استخباراتية تقنية؛ فقدت فيها القيادة بصرها الميداني وأذنيها العملياتيتين، وتحوّلت القوة المسلحة إلى جسدٍ بلا أعصاب.

    لكن الأخطر من ذلك أن ما جرى هناك ليس معزولًا عن سياقٍ أوسع.

    إنه تحوّلٌ نوعي في طبيعة الحروب في منطقتنا:

    من حرب ميليشياتٍ وسلاح إلى حرب اتصالاتٍ ومعلومات، ومن معركة بنادق إلى صراع سيطرةٍ على الموجة والتردّد.

    من ينتصر اليوم ليس من يملك العدد والعدّة، بل من يملك القدرة على إطفاء وعي الخصم وشلّ اتصاله.

    وهنا تتجلّى المفارقة التي لا بد أن نتوقف عندها في اليمن:

    فما جرى في الفاشر هو بالضبط ما كان يُراد لليمن أن يعيشه عندما أُدخلت المليشيات المرتزِقة والمدعومة خارجيًّا إلى ساحة الصراع اليمني.

    كان الهدف الحقيقي – وما يزال – تفكيك منظومة القرار والسيطرة والاتصال داخل الدولة اليمنية، وشلّ قدرتها على إدارة المعركة أَو حماية وحدتها الوطنية.

    لقد أرادوا زرع العمى التكتيكي ذاته، وتحويل الجغرافيا اليمنية إلى مسرحٍ مكشوفٍ تديره الأقمار الصناعية وغرف العمليات الأجنبية.

    غير أن اليمن، رغم كُـلّ ما مرّ به من حروبٍ وحصارٍ وتآمر، امتلك ما لم تمتلكه الفاشر:

    شبكة وعيٍ شعبيٍّ ومؤسّسيٍّ قاومت الاختراق، وقيادة ميدانية استطاعت أن تعيد إنتاج أدواتها وتطوّر قدراتها الاتصالية والمعلوماتية حتى باتت تدير المعركة من موقع الفاعل لا المفعول به.

    إن سقوط الفاشر إذَا ليس مُجَـرّد حدثٍ محلي، بل إنذارٌ استراتيجي لما قد يحدث حين تفقد الدولة سيادتها المعلوماتية.

    وهو أَيْـضًا مرآةٌ لما كان يُخطط لليمن: أن يتحول البلد إلى ساحة حربٍ تقنية تُدار من الخارج، وأن تُعزل وحداته العسكرية كما عُزلت قوات الفاشر.

    لكن الفارق الجوهري أن اليمنيين فهموا اللعبة باكرًا، فبنوا منظوماتهم الدفاعية الخَاصَّة، وطوّروا تقنياتهم الاتصالية، وربطوا المعركة بمشروعٍ وطنيٍّ مستقل، لا بأجندة تُملَى من الخارج.

    في المحصّلة، سقوط الفاشر لم يكن خيانةً فردية، بل رسالةً استخباراتيةً للعالم الثالث:

    من لا يملك قراره الاتصالي، لا يملك قراره السياسي ولا مصيره العسكري.

    وحين تتحوّل المعلومة إلى سلاح، تصبح السيادة التقنية هي السيادة الوطنية.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مبارك حزام العسالي

    spot_imgspot_img