المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    الجود بالنفس أسمى غاية الجود

    ماذا عسانا أن نقول في من اصطنعهم اللهُ لنفسه،...

    الخوف على التهدئة غطاءٌ لاستمرار العدوان

    وقف إطلاق النار: أدَاة لتعليق الجهاد ومقاومة الاحتلال وغطاء...

    من الفاشر إلى الساحل الغربي يتكرر المشهد وتتشابه الجريمة والمجرم

    في السودان اليوم تغتصب النساء على مرأى من ذويهن...

    الخوف على التهدئة غطاءٌ لاستمرار العدوان

    وقف إطلاق النار: أدَاة لتعليق الجهاد ومقاومة الاحتلال وغطاء لاستمرار العدوان

    في هذا المشهد المعقّد، يعتمِد الكيان الصهيوني خطابًا مزدوجًا يستند إلى مفارقةٍ مُتعمَّدة.

    فمن ناحية، يُظهر تمسُّكًا ظاهريًّا بالاتّفاقات والسلام، ويحمّل الطرف الآخر – في جنوب لبنان وغزة – مسؤولية الحفاظ على الهدوء، ويتهمه بعدم الرغبة في العودة إلى الحرب.

    ومن ناحية أُخرى، يتحَرّك عمليًّا في مسارٍ معاكس تمامًا: فهو لا يسعى لحماية السلام، بل يستغل التزام الطرف الآخر بوقف إطلاق النار ليقدّم نفسه للعالم وكأنه “مُجبَر” على الاستعداد للحرب، لكنه “مقيّد” بشروط الاتّفاق ووساطات الأطراف الدولية.

    هذا التصرّف المُحكم في صياغة الرواية يهدف إلى إيهام المجتمع الدولي بأن الكيان الصهيوني رهين الظروف، في حين أن هدفه الخفي هو دفع الجميع – بما في ذلك الأطراف الإقليمية والوسطاء – إلى التشبّث المفرط بجهود السلام ووقف إطلاق النار، والتمسّك بأي وسيلة سلمية تجنّب العودة إلى القتال.

    وهكذا، يحوّل التزام الآخرين بالسلام إلى غطاءٍ يسمح له بالتحَرّك بحرية، مستفيدًا من “درعٍ جماعي” صنعه بنفسه.

    تحت هذه الحماية المتواطئة، ينطلق الكيان الصهيوني في تنفيذ عدوانه المتكرّر: يقتل، ويحتل، ويدمّـر – كما يحدث في لبنان وغزة.

    فمنذ دخول اتّفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، سقط في غزة وحدها أكثر من 200 شهيد ومئات الجرحى.

    ومع ذلك، يُقدّم هذا العدوان المتواصل على أنه “خروقات محدودة” أَو “انتهاكات متفرقة”، ليبرّر استهداف المدنيين وتدمير البنى التحتية والتوسّع في الاحتلال، دون أن يدفع ثمنًا سياسيًّا أَو عسكريًّا يُذكر.

    وسرعان ما تتدخل الأطراف الدولية – ولا سيما الولايات المتحدة وحلفاؤها – لإعادة تثبيت وقف إطلاق النار، وطمأنة الجميع بأن “الهدنة ما زالت قائمة” و”الحرب لن تعود”، بينما يواصل العدوّ عدوانه بضوءٍ أخضر أمريكي.

    وهكذا، يُختَزل العدوان المنهجي إلى حوادث منفصلة، ويُقدّم كردّ فعلٍ عفوي، لا كاستراتيجية ممنهجة تُنفَّذ بأوامر أمريكية، وتستغل الانقسامات القائمة لتثبيت نقاط احتلال جديدة على الأراضي اللبنانية، وممارسة القتل والتنكيل بلا رادع.

    بكل برودةٍ ودهاء، ينسج الكيان الصهيوني استراتيجيته في ظل مشهدٍ دولي قابلٍ للاختراق والتوظيف.

    فهو لا يكتفي بتحويل السلام إلى أدَاة هيمنة، بل يعيد تشكيل مفهومه ذاته ليصبح سجنًا للطرف المقاوم، ودرعًا واقيًا لعدوانه المتواصل.

    إنها لعبة خطيرة تتجاوز التكتيك العسكري المباشر إلى بناء سردية كاملة، تنقلب فيها الحقائق رأسًا على عقب: فيُصوَّر المعتدي كضحيةٍ مهدّدةٍ تدافع عن نفسها، بينما يُجرَّم المقاوم؛ لأَنَّه يرفض الذلّ والاستسلام.

    هذه الآلة الدعائية – المدعومة بتحالفات دولية مريحة – تخلق واقعًا مشوّهًا: فالطرف الذي يرفع سلاح المقاومة يُتَّهم بتعطيل السلام، بينما يُقدّم الطرف الذي يقصف البيوت ويقتل الأطفال كـ”حارسٍ للاستقرار”.

    وبهذا، يصبح التزام المقاومة بوقف إطلاق النار شهادةً ضدها، وسلاحًا في يد المحتلّ، الذي يستغل هذا الالتزام ليوسّع هجومه، معتمدًا على أن خصمه سيبقى مكبّلًا بمواثيق الهدنة، وخائفًا من اتّهامه بـ”خرق السلام”.

    وفي الخلفية، تعمل آلة دبلوماسية محكمة على ترسيخ هذا الواقع المقلوب.

    فكل عدوان صهيوني يُقدّم للعالم على أنه “ردّ على انتهاكات”، وكل جريمة تُغسَل بخطابٍ عن “الحق في الدفاع عن النفس”.

    وتأتي الولايات المتحدة وحلفاؤها ليكملوا الصورة، فيؤكّـدون أن “الهدنة صامدة”، رغم أن ما يحدث على الأرض هو حربٌ متصاعدة ببطء، تُدار بحرفيةٍ لئيمة لتفريغ المقاومة من مضمونها، وتحويلها من فعل تحريرٍ استراتيجي إلى مُجَـرّد “ردّ فعل” يجب احتواؤه.

    وهكذا، يتحوّل “السلام” إلى أقوى سلاحٍ في يد المحتلّ: فهو يضمن له الحماية السياسية، ويشغّل الطرف الآخر والوسطاء بجهودٍ عقيمة للحفاظ على هشاشة الهدنة، ويوفر له الوقت والمساحة لمواصلة تهويد الأرض وترويع السكان، دون أن يدفع الثمن.

    إنه سلام الإلهة “باكس” الرومانية: التي تمسك بيدٍ غصن الزيتون، وتخفي في اليد الأُخرى سيفًا ملطخًا بالدماء.

    إنه سلام القوة، لا سلام العدل.

    في هذا السياق، يصبح “وقف إطلاق النار” أدَاة لتعليق المقاومة، لا لإنهاء العدوان.

    والمأساة أن المجتمع الدولي، بتركيزه على “تهدئة الأوضاع” بأي ثمن، يصبح شريكًا غير مباشر في هذه المعادلة.

    فهو يكافئ المعتدي على عدوانه، ويعاقب المقاوم على صموده وثباته.

    وتُضيّع الحقيقة الأَسَاسية: أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على أنقاض شعبٍ يُحاصر، وتُسرَق أرضه، وتُدمّـر كرامته.

    السلام الحقيقي، كما قال الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي – سلام الله عليه -: «إذا أردت السلام، فاحمل السلاح».

    هذه هي القاعدة الصحيحة في الصراع: فالسلاح ليس داعيًا للحرب، بل ضامنٌ للكرامة، وضمانةٌ لعدم استباحة الدم والعرض والأرض.

    أما استراتيجية العدوّ، فهي لا تهدف فقط إلى مكاسب عسكرية آنية، بل إلى إعادة تشكيل العقل الجمعي للإقليم والعالم: جعل العدوان أمرًا عاديًّا، والمقاومة فعلًا استفزازيًّا، والاحتلال واقعًا لا مفرّ منه.

    إنها معركة وجودٍ تستخدم فيها الكلمات كقنابل، والاتّفاقات كأغلال، والدعم الدولي كسلاحٍ فتّاك.

    والمواجهة الحقيقية ليست فقط على الأرض، بل داخل العقول والقلوب، حَيثُ تُخاض معركة الوعي ضد آلة التضليل الأعظم.

    والنتيجة النهائية هي توفير غطاءٍ لاستمرارية الكيان الصهيوني، يمكّنه من متابعة خططه العدوانية وتحقيق أهدافه التوسعية دون مواجهة مقاومة فعلية، وفي الوقت نفسه يتفلّت من تبعات السخط الدولي أَو الإدانة الجادة؛ لأَنَّ الجميع منشغلٌ بـ”حفظ ماء الوجه” والتمسّك بسلامٍ واهم.

    وهكذا، تُسرَق إرادَة السلام، وتُحوَّل إلى أدَاة للهيمنة، وحربٍ من طرفٍ واحد.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    علي هراش

    spot_imgspot_img