المشهد اليمني الأول/

 

– لا يمكن توهّم المعارك التي تشهدها سياسياً وعسكرياً مناطق التوتر والتصعيد الكبرى في العالم كمناطق منعزلة بعضها عن البعض الآخر، بينما على كل من هذه الجبهات توجد واشنطن مباشرة بقواتها أو بدبلوماسييها، أو غير مباشرة عبر حلفاء يقاتلون لحسابها أو لحسابهم وحسابها معاً، بصورة لا تنكر واشنطن صلتها بما يجري، بل بإعلان أميركي واضح عن المسؤولية المباشرة في قيادة المواجهات، تستوي في ذلك معارك التفاوض حول الملفين النوويين لكوريا الشمالية وإيران، وحرب الجنوب والشمال في سورية، وحرب الحدود والوجود في العراق، وحرب اليمن، تشكيل الحكومة في لبنان.

 

– في الجبهات النووية ترابط لا مفرّ منه، فما تلتزم به واشنطن لبيونغ يانغ يطرح سؤالاً مباشراً، وماذا لو خرجت من التزاماتها كما حدث مع إيران؟ وما تريده واشنطن من عقوبات على إيران لجلبها مجدداً للتفاوض يستدعي التزام أوروبا بالعقوبات، والالتزام الأوروبي يعني ذهاب إيران نحو التخصيب المرتفع وامتلاك مخزون كافٍ لتصنيع قنبلة نووية لا تريد واشنطن مواجهة مخاطرها، ولا تملك في مواجهتها بدائل جاهزة. ومع كوريا ترغب واشنطن بالثنائية دون دور للصين وروسيا، لكنها لا تستطيع تفادي ترجمة إخلاء بالسلاح النووي من شبه الجزيرة بنقل السلاح النووي الكوري الشمالي إلى روسيا والصين، وثمن الاستضافة شراكة، وثمن الشراكة إخلاء صواريخ الثاد من كوريا الجنوبية وفقدان مهابة الأميركي المنتصر.

 

– في سورية تقاتل أميركا للاحتفاظ بقدرتها على التحكم بالحدود السورية العراقية. وهي لا تريد نصراً عسكرياً سورياً خالصاً في الجنوب ينتهي بوجود إيران وحزب الله على مقربة من حدود الجولان. وقد تعهدت لـ«إسرائيل» بتوظيف وجودها في قاعدة التنف لمقايضة هذا الوجود بامتناع إيران وحزب الله من الانتشار جنوباً، فتقصف الحشد الشعبي لضمان تقدّم ميليشات مدعومة منها لاحتلال مواقع في الحدود وتفشل، وتتنصل، وتحاول تحسين شروط التسوية الجنوبية لنقل قاعدة التنف إلى معبر الوحيد، فتلاقي الرفض. وتتقدم الوحدات العسكرية السورية إيذاناً ببدء المعركة وإعلان فشل التفاوض فتسارع واشنطن لتحريك مندوبيها للتواصل مع موسكو تسريعاً للمحادثات.

 

– في العراق واشنطن تريد الحدود وتريد ضمان بقاء الوجود، وتدرك أن الانتخابات التي راهنت على نتائجها تنزلق من بين أيديها، وأن ما ظنّته ربحاً يتحوّل خسارة. فالتكتلان النيابيان اللذان يجتمعان لتشكيل نواة تحالف حكومي جديد، يلتزمان بالانسحاب الأميركي من العراق، وبسلاح الحشد الشعبي، ويثبت أن الرهان السعودي على تموضع السيد مقتدى الصدر قد خاب، وأن الشرط الذي وضعه الأميركيون للتسهيل وهو ضمان عودة رئيس الحكومة حيدر العبادي لتشكيل الحكومة الجديدة قد يتسبّب بإنهاء مسيرة العبادي سياسياً وإبقائه خارج التحالف الحكومي. وربما ينتهي التكتل الذي يقوده إلى التفكك، وعندما تضغط واشنطن على الحشد الشعبي عسكرياً في الحدود مع سورية، تنفتح عليها مخاطر مواجهة قواتها في العراق لعمليات الانتقام، فتتنصل من الهجوم وتحيله على «إسرائيل». وتدور اللعبة في حلقة مقفلة لا مفرّ من الخيبة فيها.

 

– في اليمن حرب وضعت السعودية والإمارات ثقلهما المالي والسياسي والعسكري للفوز بحلقتها الحاسمة في السيطرة على مدينة الحُدَيْدة ومطارها ومينائها على البحر الأحمر. وبعد أسابيع رمى حلفاء واشنطن بكل ما بين أيديهم في المحرقة، وأعلنوا النصر الكبير، لكن الساعات التالية تكشّفت عن خسائر لا تُحصى وعن فخاخٍ وحصارٍ، وعودة أنصار الله واللجان الشعبية للإمساك بزمام المبادرة ومعارك كر وفر لم تنته، والحصيلة خسائر فادحة دون إنجاز ثابت، وعجز عن التمركز حتى ولو لالتقاط صورة تذكارية أمام لافتة المطار أو بث مباشر من إحدى قاعاته التي تمّ الإعلان عن سقوطها تحت سيطرة المهاجمين من الصباح الباكر. بينما يبثّ أنصار الله صور القتلى بالعشرات والآليات المحروقة للمهاجمين وفيديوات حية للمعارك التي خاضها مقاتلو اللجان والجيش، وبعدما ينجلي غبار المعارك ستكون الخيبة الكبرى للأميركيين يمنية.

 

– في لبنان حيث المعادلة واضحة بفوز نيابي لحماة سلاح المقاومة، محاولة تمييع وتلاعب بقواعد تشكيل الحكومة، ووضع سقوف تتيح السيطرة عليها بالاحتيال، لمنع تحقيق الحلقة الأولى من برنامج رئيس الجمهورية بالتعاون مع الحكومة السورية لبدء عودة النازحين، وإلا بقاء البلد بلا حكومة طالما النتيجة الأولى لها هي بدء عودة النازحين بمعزل عن الإرادة الغربية باستعمال هذه الورقة للضغط التفاوضي في سورية، لكن أوروبا تتخوّف من أن يتحوّل الفشل في تشكيل حكومة سريعاً إلى سبب لفوضى تبدأ معها عفوياً أو بصورة مبرمجة حركتان للنازحين، واحدة نحو سورية بتعاون أمني لبناني سوري لا ينتظر تشكيل الحكومة، وثانية نحو أوروبا بغضّ نظر أو تشجيع لبناني، فيعكس سيف التعطيل الحكومي الأهداف منه.

 

– العناد الأميركي سيضيّع فرص تسويات يمكن تجرّع خسائرها، وربما يضع واشنطن وحلفاءها أمام خسائر يصعب تحملها، وبديلها مواجهة أصعب. وليس في واشنطن ولا بين حلفائها عاقل ينصح بعدم تضييع الفرص، فزمن التحكم بالأقدار قد ولّى.

ــــــــــــــــــــــــ

ناصر قنديل

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا